حديث النفس والوسواس
تعالي أُحَدِّثكِ عن حديث النَّفس :
- إنَّ هناك حديثَ نفسٍ يدور في صَدْر كُلٍّ منَّا، فمَنِ الذي يَتَحَدَّث؟
الأول شيطان، ويُقَابله مَلَك.
- وما الدَّليل؟
- قال - تعالى -: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23، 24]، ثمَّ قال - تعالى - في نفس السورة: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27]،
إذًا ترينَ أنَّ ...
القرينَ الأول يَتَحَدَّث بِلَهْجة الشاهد الذي يشهد على الإنسان بما فعل منَ المَعَاصي،
والقرينُ الثاني يَتَحَدَّث بلهجة المُتَّهَم الذي يَنْفِي عن نفسه تُهمة الإِضْلال، فالأوَّل هو قرينه منَ الملائِكة، والثاني: هو قرينُه منَ الشَّيَاطِين،
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ للمَلَك بابن آدم لمة، وللشَّيطان به لَمَّة)).
هذانِ طَرَفانِ من خارج النفس، وهناك طرفان من داخل النفس ؛ هواكِ، وفطرتكِ.
- ما الفرق؟
- إن الله - تعالى - لَمَّا خلق الإنسان رَكَّبَ فيه فطرة مَجْبُولة على الخير، كما جَعَل له هوًى يَدْعُوه إلى الشَّهَوَات؛ قال - تعالى -: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 8 - 10]، إذًا فالإنسانُ فيه داعي الخير، وداعي الشَّر، والقلب بين هذه الأطراف حَكَم.
نعم القلب ففيه العقلُ ؛ قال - تعالي -: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
انظر إلى خارطة الخواطر ....
فإن الخواطر إما خاطر خير وإما خاطر شر .....
وخاطر الخير ياتي عن طريق المَلك أو الفطرة التي فطرنا الله عليها
أما خاطر الشر فمصدره إما الشيطان وإما هوى النفس
أما مسرح الحدث فإن كل ذلك من الخواطر يدور في العقل الذي في القلب.
الآن نحتاج للتَّمييز بين نَزْغِ الشيطان وبين إلقاء المَلَك، كما نحتاج للتَّمييز بين الهوى وبين الفطرة.
وإذا عَرَفنا مَن المُتَحَدث، سنَتَّخذُ كذلك ردَّ الفعل المُناسب، وبالتالي
لن يَتَمَكَّن منَّا اليأس، ولا الفُتُور، ولا الإحباط في أداء الطاعات والعمل لله.
فمثلاً، الآن أنتِ مَيَّزتِ أنَّ هذا نَزْغ شيطان، ستقولينَ: إذًا هو إلقاءٌ يجبُ عليَّ ردُّه، وعندما تعرفينَ الهوى ستُخالِفينَه، وبذلك تَكُونينَ وافَقْتِ أمر الله.
لكن قبل أن نَتَحَدَّث عنِ التَّمييز بين مختلف الوَسَاوس، نُوَضِّح أولاً متى يكون المرء محاسبًا، ومتى لا يكون محاسبًا؛
يعني متى يَتَحَوَّل الوَسواس إلى كَسْب قلبي؟
وهذا سَيُسَاعدنا كثيرًا في تحديد مَنِ الذي يُوَسْوس، كما أنه يُساعد مَن لَدَيْه وسواس مرضي على مُقَاومته، وكذلكَ فإنَّ في هذه المنطقة بالذَّات - وأعني بها القلب - أولَ طريقِ جهادِ النَّفس، فإن صَلُحَتِ المُضْغة، صَلُحَتْ سائر العِبَادات
سنعرفُ متى يكون الرِّياء خاطرًا، أو وَسْواسًا؟ ومتى يكون كَسْبًا؟ ومتى يكون العُجْب خاطرًا؟ ومتى يكون كسبًا؟ ومتى تكون الاعتقادات الخاطئة - من كفر أو رغبات شهوانيَّة... إلخ - خواطرَ؟ ومتى تكون كسبًا؟ ومتى يكون النِّسيان محاسَبًا عليه؟ ومتى لا يكون؟ وسَنَتَعَلَّم تجارة العلماء - وهي النوايا باختصار - سنعرف متى يكون الإنسان محاسَبًا على ما مَرَّ بذهنه؟ ومتى لا يكون؟ وبالتالي سَنَشْعُر بالارتياح والتَّصَالُح مع نفوسِنا، ولن نظلَّ ندور في دائرة مُفْرَغة، وسَنَتَعَلَّم كيف نَتَحَكَّم في الخاطر ونُوَجهه إلى رَفْع هِممنا، وكيف نقوِّي عزمنا على الإخلاص، وباختصار مرة أخرى: سنعيشُ في عالمٍ آخرَ، عالمٍ كاملٍ، كنَّا في غَفلةٍ عنه، فأَهْلَكَتْنا غَفْلَتُنا.
أولاً: ما الفرق بين منطقة الكَسْب، ومنطقة الخَوَاطر؟
الخواطر ما يَرِد على قلبكِ من أفكار، كما بَيَّنَّا أطرافه سابقًا، ثم يَقْبل قلبكِ الخاطر، أو يردُّه، أو يَتَجَاهله.
وهذه الرُّسومات التَّوضيحيَّة التالية تُبَيِّن كيفيَّات قَبول الخاطر، ورده، وتَجَاهُله، ونبدأ بخاطر الخير:
يأتيكِ خاطر الخير فتَقْبلينه، أو تَرُدِّينه، أو تَتَجاهلينه، كما قُلنا، والرَّسمة السابقة تَتَحَدَّث عن قبولكِ الخاطر
- الكَسْبُ القلبي أمامه سَهْمان، وهما يُشيرانِ لِقَبُول الخاطِر؛ بمعنى: أنَّ قَبول الخاطر هو الكَسْب القلبي، وعنيتُ بِقَبُول الخاطر أنَّ القَلْب يعزم عَزْمًا على القَبول بهذه الكيفيَّات المذكورة، تحت الأسهم (لله، لغير الله... إلخ)، فالآن الخاطر يُلقيه المَلَك أوِ الفطرة من نفسكِ: صَلِّي، زَكِّي، صومي... إلخ.
فيعزم قلبكِ على الفعل لله أو لغير الله... إلخ، حتى الآن أنتِ لم تصومي، ولم تُزَكِّي، ولم تفعلي شيئًا، فقط نَتَحَدَّث عنِ العزم قبل الفعل، أنتِ أخذْتِ الأجْرَ أوِ الإثم على العمل القلبي قبل الفعل، يعني لو استيقظتِ فلم تصومي؛ لأيِّ ظرف قدريٍّ، أو حتى لِلْكَسل؛ لكن كان عزمُكِ صادقًا، فأنتِ كان لكِ أجر العزم والإرادة والنِّيَّة؛ كما روى ابن عباس عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كَتَبَ الحسنات والسيئات، ثم بَيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها، كُتبتْ له حسنة كاملة، ومَن هَمَّ بها فعملها، كُتِبَتْ له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، والله يُضاعِفُ لِمَن يشاء)).
الآن نرسم رسمةً أخرى.
انظُري في الرَّسمة، إذا أتى الإنسانَ خاطرُ خيرٍ فردَّه، فهو بين الإثم ونقصان الإيمان، لاحِظي هنا أمرًا مهمًّا:
أولاً: أنا أَتَحَدَّث عن خاطر خير مُجَرَّد، لا خاطر خير مشتبه فيه.
يعني قد يكون خاطر الخير تَشْبيهًا منَ الشَّيطان؛ لِيَجْعل الإنسان يَشْتغل بِمَفْضُول، مثلاً: فلو تفطَّنَ له المُؤْمِنُ ورده، لا يدخل في بابِنا هذا.
مثلاً، أنتِ تَقْرَئينَ القُرآن، وأُذِّن الأذان، فوَقَع في قلبكِ أنَّكِ تُريدينَ الاستزادة منَ القراءة، ولا تُرَدِّدين خلف الأذان، أو تأخير الصلاة، هل هذا خاطر خير؟
في ظاهره نعم؛ لكن في باطنه يُضَيِّع عبادة وقت... والأمثلة كثيرة.
إذًا؛ لو جاء خاطرُ الخير الحقيقي، فَرَّدَهُ الإنسان، ما معنى رَدِّه؟
لاحِظي أيضًا، أنا لا أتحدَّثُ عنِ النِّسيان، أوِ الانشغال، أنا أتحدثُ عن إرادة رَدِّه، مثلاً: فتاة غير محجبةٍ يَأْتِيها هاتفٌ داخليٌّ: تَحَجَّبِي، هذا أفضل، فترده، وتقول في نفسها: ليس الآن، أنا أحب الزِّينة، فبالقطع هي بإرادتها آثِمَة؛ لعدم لبس الحجاب؛ لأنَّها عَزَمَتْ على عدم الطاعة.
مثال آخر: هاتفٌ يأتيكِ: تَصَدَّقي، فتَبْخلينَ، البُخل هنا عَمَل قلبي، وهو العزم على عدم التَّصَدُّق، والعمل القلبي إرادة، والإرادة نحن محاسبونَ عليها، وإن كانتِ الصَّدَقة سُنَّة، وليست فريضة؛ لكن الإيمانَ يَزِيدُ وينقص بهذه العزيمة.
- انظري إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فما أحوال النسيان؟
- النِّسيان نَوْعَان:
نسيانٌ حقيقي، وهو أن يرد الخاطر ويذهب دون عزم، لا على قبول، ولا رد.
ونسيان كَسْبِي: وهو المقصود في الآية، وهو أن يرد الخاطر فَنَتَجَاهله عن عَمْد.
يأتي الآن دور خاطرِ الشَّرِّ:
إنَّ ما أورثَ أُنْسًا ونورًا في القلب، وانشراحًا في الصَّدر، فهو منَ المَلَك، وما أَوْرَثَ ضد ذلك، فهو منَ الشيطان.
و ما أورثَ سَكينةً وطُمأنينةً، فهو منَ المَلَك، وما أورثَ قَلَقًا وانْزِعاجًا واضْطرابًا، فهو منَ الشيطان.
فالإلهام المَلَكِي يَكْثُر في القلوب الطَّاهرة النقيَّة، التي قدِ استنارتْ بنور الله، فَلِلْمَلَكِ بها اتِّصال، وبينه وبينها مناسبة، فإنه طَيِّبٌ طاهِر، لا يجاوِرُ إلاَّ قلبًا يُناسِبه، فتكون لَمَّة المَلَك أكثر مِن لَمَّة الشيطان بهذا القلب.
وأمَّا القلب المَيِّت الذي قدِ اسْوَدَّ بدخان الشهوات والشبهات، فإلقاء الشيطان وَلَمُّه به أكثر من لَمَّة الملك".اهـ، مِن "كتاب ابن القيم".
- الفرق واَضَح ؛ لكن هذا يُعيدنا للوَسواس الأول، فقد يكثر بي خاطر السُّوء؛ لأنَّ قلبي خرب.
- بل ماذا يفعل الشيطان في البيت الخَرِب، هذا محض إيمان،
وكلام ابن القيم: أنَّ الشيطان له بالقلب الصالح لَمَّات أيضًا، حتى ينتصرَ الخير فيه أو الشر، فيصيرُ القلب سليمًا أو ميتًا، فإذا كان القلب مُسْتَسْلِمًا للشُّبُهات والشَّهوات، يَأْتِيها من غير امتناعٍ ولا خَشْيَة، فهو القلب الذي اسْوَدَّ، والذي يَتَبَاعَدُ عنه المَلَك، فلا يكاد يُؤَنِّبُ نفسه إلاَّ كَسَرابٍ يراه مِن بعيد، ولا يدركه أبدًا، فابن القَيِّم يَتَحَدَّث عن آخر مراحل القلوب، حين يصلَ القلب الذي قاوَمَ وَجَاهَدَ إلى مأربه منَ السلامة، وحين يصل القلب الذي اسْتَسْلَمَ، وانقاد للشَّرِّ إلى الموت، فمع المقاومة، والاستعاذة، وكثرة الاستغفار، وحُضُور القلب في الخَيْرات، ومتابعة النوايا، والإصرار على الصالحات، ومُجاهَدة النفس، وتزكيتها بالأذكار؛ والقرآن، والدعاء - ستَجِدين أن الأمورَ صارَتْ أفضل - إن شاء الله - وأنَّ لَمَّات المَلَك صارت أقرب، وأن لَمَّات الشَّيطان صارتْ أبعد، فلا يكاد يكون للقلب شهوة ولا شبهة تُخَالف أمر الحق، وهذا أمرٌ عظيمٌ، وجائزة جليلة من ربٍّ كريم؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فقط عليكِ بِنَصيحة الصَّالحين والصَّالحات، واثْبُتِي على الحقِّ لا على غيره، واجْلِسي مع نفسكِ خمس دقائق قبلَ أيِّ عملٍ؛ لِتُجَدِّدي النِّيَّة، وإن وجدتِ لَمًّا منَ الشيطان، فاستعيذي بالله - تعالى -
ولا تَنْسَي تجديد إيمانك بلا إله إلا الله.
----------------------------------
مختصر من احدى المحاضرات القيِّمة؛ للدكتور/ محمود عبدالرازق الرضواني، مع ما تَيَسَّرَ من كُتُب ابن القيم الجوزية.
" منقول بتصرف"
تعالي أُحَدِّثكِ عن حديث النَّفس :
- إنَّ هناك حديثَ نفسٍ يدور في صَدْر كُلٍّ منَّا، فمَنِ الذي يَتَحَدَّث؟
الأول شيطان، ويُقَابله مَلَك.
- وما الدَّليل؟
- قال - تعالى -: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23، 24]، ثمَّ قال - تعالى - في نفس السورة: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27]،
إذًا ترينَ أنَّ ...
القرينَ الأول يَتَحَدَّث بِلَهْجة الشاهد الذي يشهد على الإنسان بما فعل منَ المَعَاصي،
والقرينُ الثاني يَتَحَدَّث بلهجة المُتَّهَم الذي يَنْفِي عن نفسه تُهمة الإِضْلال، فالأوَّل هو قرينه منَ الملائِكة، والثاني: هو قرينُه منَ الشَّيَاطِين،
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ للمَلَك بابن آدم لمة، وللشَّيطان به لَمَّة)).
هذانِ طَرَفانِ من خارج النفس، وهناك طرفان من داخل النفس ؛ هواكِ، وفطرتكِ.
- ما الفرق؟
- إن الله - تعالى - لَمَّا خلق الإنسان رَكَّبَ فيه فطرة مَجْبُولة على الخير، كما جَعَل له هوًى يَدْعُوه إلى الشَّهَوَات؛ قال - تعالى -: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 8 - 10]، إذًا فالإنسانُ فيه داعي الخير، وداعي الشَّر، والقلب بين هذه الأطراف حَكَم.
نعم القلب ففيه العقلُ ؛ قال - تعالي -: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
انظر إلى خارطة الخواطر ....
فإن الخواطر إما خاطر خير وإما خاطر شر .....
وخاطر الخير ياتي عن طريق المَلك أو الفطرة التي فطرنا الله عليها
أما خاطر الشر فمصدره إما الشيطان وإما هوى النفس
أما مسرح الحدث فإن كل ذلك من الخواطر يدور في العقل الذي في القلب.
الآن نحتاج للتَّمييز بين نَزْغِ الشيطان وبين إلقاء المَلَك، كما نحتاج للتَّمييز بين الهوى وبين الفطرة.
وإذا عَرَفنا مَن المُتَحَدث، سنَتَّخذُ كذلك ردَّ الفعل المُناسب، وبالتالي
لن يَتَمَكَّن منَّا اليأس، ولا الفُتُور، ولا الإحباط في أداء الطاعات والعمل لله.
فمثلاً، الآن أنتِ مَيَّزتِ أنَّ هذا نَزْغ شيطان، ستقولينَ: إذًا هو إلقاءٌ يجبُ عليَّ ردُّه، وعندما تعرفينَ الهوى ستُخالِفينَه، وبذلك تَكُونينَ وافَقْتِ أمر الله.
لكن قبل أن نَتَحَدَّث عنِ التَّمييز بين مختلف الوَسَاوس، نُوَضِّح أولاً متى يكون المرء محاسبًا، ومتى لا يكون محاسبًا؛
يعني متى يَتَحَوَّل الوَسواس إلى كَسْب قلبي؟
وهذا سَيُسَاعدنا كثيرًا في تحديد مَنِ الذي يُوَسْوس، كما أنه يُساعد مَن لَدَيْه وسواس مرضي على مُقَاومته، وكذلكَ فإنَّ في هذه المنطقة بالذَّات - وأعني بها القلب - أولَ طريقِ جهادِ النَّفس، فإن صَلُحَتِ المُضْغة، صَلُحَتْ سائر العِبَادات
سنعرفُ متى يكون الرِّياء خاطرًا، أو وَسْواسًا؟ ومتى يكون كَسْبًا؟ ومتى يكون العُجْب خاطرًا؟ ومتى يكون كسبًا؟ ومتى تكون الاعتقادات الخاطئة - من كفر أو رغبات شهوانيَّة... إلخ - خواطرَ؟ ومتى تكون كسبًا؟ ومتى يكون النِّسيان محاسَبًا عليه؟ ومتى لا يكون؟ وسَنَتَعَلَّم تجارة العلماء - وهي النوايا باختصار - سنعرف متى يكون الإنسان محاسَبًا على ما مَرَّ بذهنه؟ ومتى لا يكون؟ وبالتالي سَنَشْعُر بالارتياح والتَّصَالُح مع نفوسِنا، ولن نظلَّ ندور في دائرة مُفْرَغة، وسَنَتَعَلَّم كيف نَتَحَكَّم في الخاطر ونُوَجهه إلى رَفْع هِممنا، وكيف نقوِّي عزمنا على الإخلاص، وباختصار مرة أخرى: سنعيشُ في عالمٍ آخرَ، عالمٍ كاملٍ، كنَّا في غَفلةٍ عنه، فأَهْلَكَتْنا غَفْلَتُنا.
أولاً: ما الفرق بين منطقة الكَسْب، ومنطقة الخَوَاطر؟
الخواطر ما يَرِد على قلبكِ من أفكار، كما بَيَّنَّا أطرافه سابقًا، ثم يَقْبل قلبكِ الخاطر، أو يردُّه، أو يَتَجَاهله.
وهذه الرُّسومات التَّوضيحيَّة التالية تُبَيِّن كيفيَّات قَبول الخاطر، ورده، وتَجَاهُله، ونبدأ بخاطر الخير:
يأتيكِ خاطر الخير فتَقْبلينه، أو تَرُدِّينه، أو تَتَجاهلينه، كما قُلنا، والرَّسمة السابقة تَتَحَدَّث عن قبولكِ الخاطر
- الكَسْبُ القلبي أمامه سَهْمان، وهما يُشيرانِ لِقَبُول الخاطِر؛ بمعنى: أنَّ قَبول الخاطر هو الكَسْب القلبي، وعنيتُ بِقَبُول الخاطر أنَّ القَلْب يعزم عَزْمًا على القَبول بهذه الكيفيَّات المذكورة، تحت الأسهم (لله، لغير الله... إلخ)، فالآن الخاطر يُلقيه المَلَك أوِ الفطرة من نفسكِ: صَلِّي، زَكِّي، صومي... إلخ.
فيعزم قلبكِ على الفعل لله أو لغير الله... إلخ، حتى الآن أنتِ لم تصومي، ولم تُزَكِّي، ولم تفعلي شيئًا، فقط نَتَحَدَّث عنِ العزم قبل الفعل، أنتِ أخذْتِ الأجْرَ أوِ الإثم على العمل القلبي قبل الفعل، يعني لو استيقظتِ فلم تصومي؛ لأيِّ ظرف قدريٍّ، أو حتى لِلْكَسل؛ لكن كان عزمُكِ صادقًا، فأنتِ كان لكِ أجر العزم والإرادة والنِّيَّة؛ كما روى ابن عباس عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كَتَبَ الحسنات والسيئات، ثم بَيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها، كُتبتْ له حسنة كاملة، ومَن هَمَّ بها فعملها، كُتِبَتْ له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، والله يُضاعِفُ لِمَن يشاء)).
الآن نرسم رسمةً أخرى.
انظُري في الرَّسمة، إذا أتى الإنسانَ خاطرُ خيرٍ فردَّه، فهو بين الإثم ونقصان الإيمان، لاحِظي هنا أمرًا مهمًّا:
أولاً: أنا أَتَحَدَّث عن خاطر خير مُجَرَّد، لا خاطر خير مشتبه فيه.
يعني قد يكون خاطر الخير تَشْبيهًا منَ الشَّيطان؛ لِيَجْعل الإنسان يَشْتغل بِمَفْضُول، مثلاً: فلو تفطَّنَ له المُؤْمِنُ ورده، لا يدخل في بابِنا هذا.
مثلاً، أنتِ تَقْرَئينَ القُرآن، وأُذِّن الأذان، فوَقَع في قلبكِ أنَّكِ تُريدينَ الاستزادة منَ القراءة، ولا تُرَدِّدين خلف الأذان، أو تأخير الصلاة، هل هذا خاطر خير؟
في ظاهره نعم؛ لكن في باطنه يُضَيِّع عبادة وقت... والأمثلة كثيرة.
إذًا؛ لو جاء خاطرُ الخير الحقيقي، فَرَّدَهُ الإنسان، ما معنى رَدِّه؟
لاحِظي أيضًا، أنا لا أتحدَّثُ عنِ النِّسيان، أوِ الانشغال، أنا أتحدثُ عن إرادة رَدِّه، مثلاً: فتاة غير محجبةٍ يَأْتِيها هاتفٌ داخليٌّ: تَحَجَّبِي، هذا أفضل، فترده، وتقول في نفسها: ليس الآن، أنا أحب الزِّينة، فبالقطع هي بإرادتها آثِمَة؛ لعدم لبس الحجاب؛ لأنَّها عَزَمَتْ على عدم الطاعة.
مثال آخر: هاتفٌ يأتيكِ: تَصَدَّقي، فتَبْخلينَ، البُخل هنا عَمَل قلبي، وهو العزم على عدم التَّصَدُّق، والعمل القلبي إرادة، والإرادة نحن محاسبونَ عليها، وإن كانتِ الصَّدَقة سُنَّة، وليست فريضة؛ لكن الإيمانَ يَزِيدُ وينقص بهذه العزيمة.
- انظري إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فما أحوال النسيان؟
- النِّسيان نَوْعَان:
نسيانٌ حقيقي، وهو أن يرد الخاطر ويذهب دون عزم، لا على قبول، ولا رد.
ونسيان كَسْبِي: وهو المقصود في الآية، وهو أن يرد الخاطر فَنَتَجَاهله عن عَمْد.
يأتي الآن دور خاطرِ الشَّرِّ:
إنَّ ما أورثَ أُنْسًا ونورًا في القلب، وانشراحًا في الصَّدر، فهو منَ المَلَك، وما أَوْرَثَ ضد ذلك، فهو منَ الشيطان.
و ما أورثَ سَكينةً وطُمأنينةً، فهو منَ المَلَك، وما أورثَ قَلَقًا وانْزِعاجًا واضْطرابًا، فهو منَ الشيطان.
فالإلهام المَلَكِي يَكْثُر في القلوب الطَّاهرة النقيَّة، التي قدِ استنارتْ بنور الله، فَلِلْمَلَكِ بها اتِّصال، وبينه وبينها مناسبة، فإنه طَيِّبٌ طاهِر، لا يجاوِرُ إلاَّ قلبًا يُناسِبه، فتكون لَمَّة المَلَك أكثر مِن لَمَّة الشيطان بهذا القلب.
وأمَّا القلب المَيِّت الذي قدِ اسْوَدَّ بدخان الشهوات والشبهات، فإلقاء الشيطان وَلَمُّه به أكثر من لَمَّة الملك".اهـ، مِن "كتاب ابن القيم".
- الفرق واَضَح ؛ لكن هذا يُعيدنا للوَسواس الأول، فقد يكثر بي خاطر السُّوء؛ لأنَّ قلبي خرب.
- بل ماذا يفعل الشيطان في البيت الخَرِب، هذا محض إيمان،
وكلام ابن القيم: أنَّ الشيطان له بالقلب الصالح لَمَّات أيضًا، حتى ينتصرَ الخير فيه أو الشر، فيصيرُ القلب سليمًا أو ميتًا، فإذا كان القلب مُسْتَسْلِمًا للشُّبُهات والشَّهوات، يَأْتِيها من غير امتناعٍ ولا خَشْيَة، فهو القلب الذي اسْوَدَّ، والذي يَتَبَاعَدُ عنه المَلَك، فلا يكاد يُؤَنِّبُ نفسه إلاَّ كَسَرابٍ يراه مِن بعيد، ولا يدركه أبدًا، فابن القَيِّم يَتَحَدَّث عن آخر مراحل القلوب، حين يصلَ القلب الذي قاوَمَ وَجَاهَدَ إلى مأربه منَ السلامة، وحين يصل القلب الذي اسْتَسْلَمَ، وانقاد للشَّرِّ إلى الموت، فمع المقاومة، والاستعاذة، وكثرة الاستغفار، وحُضُور القلب في الخَيْرات، ومتابعة النوايا، والإصرار على الصالحات، ومُجاهَدة النفس، وتزكيتها بالأذكار؛ والقرآن، والدعاء - ستَجِدين أن الأمورَ صارَتْ أفضل - إن شاء الله - وأنَّ لَمَّات المَلَك صارت أقرب، وأن لَمَّات الشَّيطان صارتْ أبعد، فلا يكاد يكون للقلب شهوة ولا شبهة تُخَالف أمر الحق، وهذا أمرٌ عظيمٌ، وجائزة جليلة من ربٍّ كريم؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فقط عليكِ بِنَصيحة الصَّالحين والصَّالحات، واثْبُتِي على الحقِّ لا على غيره، واجْلِسي مع نفسكِ خمس دقائق قبلَ أيِّ عملٍ؛ لِتُجَدِّدي النِّيَّة، وإن وجدتِ لَمًّا منَ الشيطان، فاستعيذي بالله - تعالى -
واعلمي: أنَّ الحزنَ مِن جنود الشيطان، فجَدِّدي النِّيَّة، وتَحرَّي الحق، ولا تتركيه أبدًا، واعلمِي: أنَّ الشَّهوات من نفسكِ، وأن الشُّبُهات منَ الشَّيْطان، فخَالِفي النَّفْس والشَّيْطان.
ولا تَنْسَي تجديد إيمانك بلا إله إلا الله.
----------------------------------
مختصر من احدى المحاضرات القيِّمة؛ للدكتور/ محمود عبدالرازق الرضواني، مع ما تَيَسَّرَ من كُتُب ابن القيم الجوزية.
" منقول بتصرف"
الخميس 2 نوفمبر 2017 - 12:09 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (10)
الأربعاء 22 أكتوبر 2014 - 12:34 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (8) - (9)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:30 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (6) - (7)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:24 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (5)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:22 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (4)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:44 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (3)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:43 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (2)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:41 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (1 )
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:39 من طرف أم رنيم