بسم الله الرحمن الرحيم
من دروس
تفسير سورة البقرة
فضيلة الشيخ/د. محمد الربيعة
فكرة عامة
هذه السورة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول :هو في بيان أصول الإيمان والعلم .وهو من الآية الأولى حتى الآية مائة وستة وتسعين.
هذا الجزء الأول يمثّل الأساس ,والقاعدة العلمية , وهو الذي فيه تهيئة النفوس لهذه الأمانة العظيمة وهو ركز هذا القسم عن الحديث عن القرءان ,فا أفتتحه ب( ألم )واختتمت هذا القسم بقوله (ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق ) إثبات بعد بيان بأن هذا القرءان حق ({ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (2) ففي الكتاب أفتتح هذا القسم وبالكتاب أيضا ًأختتم .
وهذا القسم أيها الأحبة يُعتبر كالتمهيد والإعداد للمؤمنين الّذين سيتلقّون أمانة الله وشريعته ,وسيكونون على قاعدة إيمانية صلبة ثابتة ينطلقون منها في تلقّي التشريع بالإمتثال الكامل وهو منهج تربوي عظيم أن يؤسس الإنسان ما يمكن أن يربي عليه يؤسس تأسيسا ًعظيما ًثم ينطلق فيما يريد تحقيقه .
ولعلنا نستعرض هذا القسم أيها الإخوة استعراضا ًسريعا ً
- فأنتم تلحظون أنها افتتحت أولا ًبالإشارة بالقرءان وبيان كماله من عدة وجوه ,
- ثم تحدثت السورة عن أصناف الناس مع هذا القرءان فا فتتحت بالحديث عن المؤمنين وصفاتهم ثم بالكافرين وصفاتهم ثم بالمنافقين وصفاتهم وأطالت في الحديث عنهم ,
- ثم بعد ذلك جاء الخطاب جمع هؤلاء الطوائف كلها بقوله ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ) (3) يعني بعد أن ذكر القرءان وأصناف الناس فيه دعاهم جميعا ًإلى عبادة الله وحده ,وأثبت ذلك بالأدلة والبراهين ,وأثبت حق من حقوق القرءان بأنه من عند الله عز وجل ,ثم بعد ذلك ذكر ما آل إليه المعاندون من الكافرين من أهل الكتاب وسعيهم إلى التشكيك في القرءان حين قالوا : كيف يُضرب بهذا القرءان العظيم كلام الله يُضرب به الذباب مثلا ًوالعنكبوت مثلا ً,فكأنهم أرادوا أن يوقعوا الشُبه في هذا القرءان ,فبرأه الله تعالى
ثم جاءت بعد ذلك قصة آدم قصة آدم تُمثّل ماذا ؟
تُمثّل أصل الهداية التي أستمرت بالرسل إلى يوم القيامة , ولذلك جاءت في قصة آدم قول الله عز وجل(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (4) فكأن هذه الأمة المحمدية يُشار إليها بأنكم تستخلفون آدم في هذه الأرض , وأنكم ترثون ما كُلّف به وهو الهداية ,في آخر قصة آدم قال (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (5) وهذه هي النقطة التي افتتحت بها السورة بقوله (هدىً للمتقين ) فانظروا كيف وصل هذه الهداية ..
ثم بعد ذلك جاءت قصة بـني إسرائيل وأطال الحديث فيها ، لماذا ؟
لأن بني إسرائيل هم الأمة المستخلفة قبل هذه الأمة, لكنهم كذّبوا وعصوا وعاندوا , وعصوا رسلهم وشددوا على أنفسهم , فجاء الحديث عنهم في دعوتهم للتذكير لهم بنعمة الله عز وجل في ثلاث آيات أعادها الله عليهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) (6) وهو يخاطب اليهود في المدينة حتى لا يكفروا (ولا تكونوا أول كافر به ) أي بالقرءان وبالنبي صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك أَبَوا وعَصَوا واستكبروا كما استكبروا وعصوا وكذّبوا رسلهم , فقال الله عنهم ) {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) (7) ثم الله عز وجل بيّن وجلّ صفاتهم وطبايعهم ليحذر المؤمنون وليكونوا على يقظة وليكونوا على حذر من مشابهتهم.
ثم جاءت قـصة البقـرة التي سنتحدّث عنها إشارة إلى ما كان من حالهم مع أوامر الله ,وكيف حالهم مع أوامر الله ؟
كان حالهم مع أوامر الله الاستهزاء والسخرية وعدم الاستجابة والتردد والتعنت والتشدد ,فهذه حالهم ,فكأن الله تعالى يُحذّر هذه الأمة أن تكون مثل بني إسرائيل في تلقّي أوامر الله احذروا أن تكونوا مثلهم , لا تقولوا سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا
فلذلك سميت السورة بالبقـرة وهذا سر تسميتها , ولعلنا نُبيّن بإذن الله إذا واصلنا الحديث عنها .
ثم بعد ذلك جاء الحديث عن إبراهيم عليه السلام
وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه الأمم والذي جعله الله خليفة وإماما ) {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ( فهو يذكّر هذه الأمة أنكم يا أمة محمد أنتم الوارثون من إبراهيم حين تكثرون على أمر الله عز وجل وفي ذلك شرف عظيم , وتذكير بعظم الأمانة وما حفّها الله تعالى من سهم التكليف , ولذلك ارتبط ذكر إسماعيل بإبراهيم في هذه السورة ، لماذا ؟
لأن هذه أمتي أمة وحيدة التي كانت من سلالة إبراهيم وإسماعيل أما أمم بني إسرائيل فكانت من سلالة إسحاق من إبراهيم عليه السلام , ولذلك جاء ذكر الأمة في قوله ({رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) (9)
ثم بعد ذلك أيها الأحبة جاء ذكر القبلة
التي كأنها شرف هذه الأمة ميّزها الله تعالى به أن الله تعالى قال لهذه الأمة قد منحتكم قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء من بعده , فإشارة بأن الله شرّف هذه الأمة بالأمانة ولا شك ,أن الله حين ورّثها أو قلّدها وشرّفها بالقبلة وحولها إليها قبلة إبراهيم ,ذلك تكليف ,ولذلك قال الله في هذه الآيات آية القبلة ({وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (10)
ثم جاءت آية القبلة وما تبعها إلى أن خُتمت الآيات بقوله تعالى ({ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) (11)
هذا القسم كله تمهـيد لهذه الأمة وتهيئـة لأن تتلقى أوامر الله بتعظيم ,واهتمام بالغ وحذر من أن تُشابه بني إسرائـيل.
ثم جاء القسم الثاني وهو في تكليف هذه الأمة بالشرائع
وابتدأ من آية (177 )إلى آخر السورة , ولعلنا نستعرض هذا استعراضا ًسريعا ً, فهذا يُمثّل القاعدة العملية والتفصيلية , ولو تأملنا في هذا القسم أيها الإخوة القسم الثاني وجدناه يرتكز على بناء الأصول وحفظا للضرورات الخمس
- جاء في حفظ الدين آيات الصيام وآيات الحج و({لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } (12) وغيرها من الآيات .
ثم جاء حفظ النفس
وهو الضرورة الثانية المهمة في قول الله تعالى بآيات القصاص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) (13) وتأملوا كيف أفتتح الله تعالى آيات الأحكام بأيات القصاص ,لأن حفظ الأمن هو سبب لإقامة الشريعة .
ثم جاء حفظ العقل بآيات الخمر (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) (14)
ثم جاء حفظ النقل بآيات النكاح والطلاق (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ) (15) إلى آخرها .
ثم جاء حفظ المال بأيات الإنفاق وآيات الربا وآيات المداينات .
انظروا كيف جاء التشريع بهذا الترتيب , والعجيب أيها الإخوة أن سورة البقرة تضمنت الأحكام التي اتفقت الأديان على أصولها هذه مسألة مهمة سورة البقرة اشتملت على الأحكام التي اتفقت الأديان على أصولها , لكنه خالف فيها أهل الكتاب أو شددوا فيها على أنفسهم ,وحرّفوا فيها وعطّلوا , فجاء الوعد بتكذيبها وتصحيحها وتخفيفها لأمة الإسلام , ولذلك تلحظون أن في خلال آيات البقرة جاء إشارة إلى التخفيف والتيسير (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }(16) ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (17) في آيات الصيام أيضا ًإشارة لذلك، كل ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل يشعرنا أن الله أراد لهذه الأمة أراد بها الرحمة وكلفّنا بهذه الشريعة السمحاء على أكمل وجه وأيسر ما كان.
وأيضا هذه الأحكام في السورة ركّزت على الأحكام التي فيها إصلاح المجتمع المسلم ،وذلك لأنها نزلت في بداية تأسيس الدولة الإسلامية النبوية وبناء النظام الأساس وهي الأشكال المتعلقة بالضرورات الخمس كما ذكرت ,ولذلك أطال الله تعالى فيها بأحكام الطلاق وأحكام الأسرة .
وأنكم لتعجبون أيها الإخوة كيف أطال الله تعالى بذكر أحكام الطلاق ولم يكون ذلك لأحكام الصلاة ؟
هذا سؤال مهم جدا ً:
لماذا الله فصّل في أحكام الطلاق وذكرها بأحكام دقيقة ,ولم يفصّل في أحكام الصلاة ؟
ذلك لسرٍّ عظيم أيها الإخوة وهي أن الأحكام المتعلقة بالعبادات بين الله وبين العباد قضية مسامحة , الله غفور رحيم ,والله تعالى أسندها أو أوكل بيانها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,لكن المعاملات والحقوق التي منها حقوق الأسر وحقوق البرية والزوجية والمالية هذه مما تُجبل النفوس على المشاحة فيها والنزاع والخلاف والعدوان والظلم , فتولّاها الله ـ عز وجل ـ برحمته بنفسه حتى لا يقول قائل لم أجدها في كتاب الله تعالى لأنها مظنة الخلاف والنزاع والظلم والعدوان أنزلها الله تعالى وبيّنها بنفسه لتعظم في نفوس الناس , وليعلم الناس عظمها وعظم من خالف ذلك في أمر الله تعالى.
فهذا سر التطويل بآيات الطلاق وآيات المواريث وآيات الأموال في هذه السورة وغيرها.
جمع شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذان المقصدان أصول العلم والعمل في هذه السورة في كلام نفيس قال :
(وقد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه سورة البقرة من أصول العلم وقواعد الدين )أصول العلم العقيدة والإيمان , وقواعد الدين الشريعة.
تأملوا كيف جاءت في خلال التشريعات جاءت آية الكرسي فما مناسبتها ؟ وجاءت آيات القتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ) (18) فما مناسبتها ؟
أما آية الكرسي فلأن هذه الأحكام التشريعية عظيمة لا يستطيع أن يحملها ويقوم بها إلّا من ثقُل قلبه بالإيمان العظيم لله عز وجل،فلذلك جاءت آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل لتُرسّخ في قلوب المؤمنين الإيمان والتعظيم لله عز وجل , فتكون باعثا ًلهم على الانقياد والالتزام بهذه الأحكام ,فما أعظم رحمة الله ـ عز وجل ـ أن أعاننا على تحمل هذه الأعباء في ترسيخ الإيمان في قلوبنا.
ولذلك هذا السر في مشروعية قراءة آية الكرسي في دبر كل صلاة , لماذا ؟ لماذا نقرأها, ولماذا نقرأ في دبر كل صلاة الإخلاص والمعوذتين ؟
هذه مسألة مهمة ينبغي أن نعيها ،لأن هذه الآية تجدد في قلوبنا الإيمان ,والإخلاص والاعتصام بالله ـ عز وجل ـ ففي كل وقت نجدد الإيمان ونجدد العبودية بالفاتحة ,ونجدد الإخلاص بسورة الإخلاص ,ونجدد الاعتماد على الله بالمعوذتين, أرأيتم كيف التوحيد يتجدد في قلب المؤمن في كل صلاة هذا سروهذا معنى يغفل عنه كثير من الناس وهو يقرأ هذه السور في دبر كل صلاة ,يجب أن نستحضره أيها الإخوة ليزيدنا إيماناً وعبودية وإخلاصًا.
هذه السورة ركّزت على جانب التقوى تركيزا ًكبيرا ً, فقد أحصيت المواضع التي وردت في التذكير بالتقوى فبلغت خمسة ًوثلاثين موضعا ًبالتذكير في التقوى , في صيغ مختلفة مدمّجة لآيات الإيمان وآيات الأحكام وغيرها لماذا ؟
كل ذلك لأن التقوى كما قال بعضهم هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر التي تبعث النفس على تعظيم هذه الأوامر والتقيّد بها ,تتقي الله عز وجل في إمتثالها.
كيف خُتِمت السورة ,وبماذا اختتمت ؟
خُتمت أيها الأحبة بشهادة الله عز وجل لهذه الأمة يعني بعد أن كلّفهم بهذه التكاليف فاستجابوا وآمنوا وامتثلوا وسمعوا , الله سبحانه وتعالى شهِد لهم بالإيمان ..وشهِد لهم بأنهم استجابوا في آخر السورة فقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (19) ثم قال الله عز وجل (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) لم يكونوا كما قال بنو إسرائيل (سمعنا وعصينا فهذه شهادة الله لهذه الأمة كرامة لها , فما أعظمها من شهادة.
من دروس
تفسير سورة البقرة
فضيلة الشيخ/د. محمد الربيعة
فكرة عامة
هذه السورة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول :هو في بيان أصول الإيمان والعلم .وهو من الآية الأولى حتى الآية مائة وستة وتسعين.
هذا الجزء الأول يمثّل الأساس ,والقاعدة العلمية , وهو الذي فيه تهيئة النفوس لهذه الأمانة العظيمة وهو ركز هذا القسم عن الحديث عن القرءان ,فا أفتتحه ب( ألم )واختتمت هذا القسم بقوله (ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق ) إثبات بعد بيان بأن هذا القرءان حق ({ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (2) ففي الكتاب أفتتح هذا القسم وبالكتاب أيضا ًأختتم .
وهذا القسم أيها الأحبة يُعتبر كالتمهيد والإعداد للمؤمنين الّذين سيتلقّون أمانة الله وشريعته ,وسيكونون على قاعدة إيمانية صلبة ثابتة ينطلقون منها في تلقّي التشريع بالإمتثال الكامل وهو منهج تربوي عظيم أن يؤسس الإنسان ما يمكن أن يربي عليه يؤسس تأسيسا ًعظيما ًثم ينطلق فيما يريد تحقيقه .
ولعلنا نستعرض هذا القسم أيها الإخوة استعراضا ًسريعا ً
- فأنتم تلحظون أنها افتتحت أولا ًبالإشارة بالقرءان وبيان كماله من عدة وجوه ,
- ثم تحدثت السورة عن أصناف الناس مع هذا القرءان فا فتتحت بالحديث عن المؤمنين وصفاتهم ثم بالكافرين وصفاتهم ثم بالمنافقين وصفاتهم وأطالت في الحديث عنهم ,
- ثم بعد ذلك جاء الخطاب جمع هؤلاء الطوائف كلها بقوله ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ) (3) يعني بعد أن ذكر القرءان وأصناف الناس فيه دعاهم جميعا ًإلى عبادة الله وحده ,وأثبت ذلك بالأدلة والبراهين ,وأثبت حق من حقوق القرءان بأنه من عند الله عز وجل ,ثم بعد ذلك ذكر ما آل إليه المعاندون من الكافرين من أهل الكتاب وسعيهم إلى التشكيك في القرءان حين قالوا : كيف يُضرب بهذا القرءان العظيم كلام الله يُضرب به الذباب مثلا ًوالعنكبوت مثلا ً,فكأنهم أرادوا أن يوقعوا الشُبه في هذا القرءان ,فبرأه الله تعالى
ثم جاءت بعد ذلك قصة آدم قصة آدم تُمثّل ماذا ؟
تُمثّل أصل الهداية التي أستمرت بالرسل إلى يوم القيامة , ولذلك جاءت في قصة آدم قول الله عز وجل(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (4) فكأن هذه الأمة المحمدية يُشار إليها بأنكم تستخلفون آدم في هذه الأرض , وأنكم ترثون ما كُلّف به وهو الهداية ,في آخر قصة آدم قال (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (5) وهذه هي النقطة التي افتتحت بها السورة بقوله (هدىً للمتقين ) فانظروا كيف وصل هذه الهداية ..
ثم بعد ذلك جاءت قصة بـني إسرائيل وأطال الحديث فيها ، لماذا ؟
لأن بني إسرائيل هم الأمة المستخلفة قبل هذه الأمة, لكنهم كذّبوا وعصوا وعاندوا , وعصوا رسلهم وشددوا على أنفسهم , فجاء الحديث عنهم في دعوتهم للتذكير لهم بنعمة الله عز وجل في ثلاث آيات أعادها الله عليهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) (6) وهو يخاطب اليهود في المدينة حتى لا يكفروا (ولا تكونوا أول كافر به ) أي بالقرءان وبالنبي صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك أَبَوا وعَصَوا واستكبروا كما استكبروا وعصوا وكذّبوا رسلهم , فقال الله عنهم ) {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) (7) ثم الله عز وجل بيّن وجلّ صفاتهم وطبايعهم ليحذر المؤمنون وليكونوا على يقظة وليكونوا على حذر من مشابهتهم.
ثم جاءت قـصة البقـرة التي سنتحدّث عنها إشارة إلى ما كان من حالهم مع أوامر الله ,وكيف حالهم مع أوامر الله ؟
كان حالهم مع أوامر الله الاستهزاء والسخرية وعدم الاستجابة والتردد والتعنت والتشدد ,فهذه حالهم ,فكأن الله تعالى يُحذّر هذه الأمة أن تكون مثل بني إسرائيل في تلقّي أوامر الله احذروا أن تكونوا مثلهم , لا تقولوا سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا
فلذلك سميت السورة بالبقـرة وهذا سر تسميتها , ولعلنا نُبيّن بإذن الله إذا واصلنا الحديث عنها .
ثم بعد ذلك جاء الحديث عن إبراهيم عليه السلام
وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه الأمم والذي جعله الله خليفة وإماما ) {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ( فهو يذكّر هذه الأمة أنكم يا أمة محمد أنتم الوارثون من إبراهيم حين تكثرون على أمر الله عز وجل وفي ذلك شرف عظيم , وتذكير بعظم الأمانة وما حفّها الله تعالى من سهم التكليف , ولذلك ارتبط ذكر إسماعيل بإبراهيم في هذه السورة ، لماذا ؟
لأن هذه أمتي أمة وحيدة التي كانت من سلالة إبراهيم وإسماعيل أما أمم بني إسرائيل فكانت من سلالة إسحاق من إبراهيم عليه السلام , ولذلك جاء ذكر الأمة في قوله ({رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) (9)
ثم بعد ذلك أيها الأحبة جاء ذكر القبلة
التي كأنها شرف هذه الأمة ميّزها الله تعالى به أن الله تعالى قال لهذه الأمة قد منحتكم قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء من بعده , فإشارة بأن الله شرّف هذه الأمة بالأمانة ولا شك ,أن الله حين ورّثها أو قلّدها وشرّفها بالقبلة وحولها إليها قبلة إبراهيم ,ذلك تكليف ,ولذلك قال الله في هذه الآيات آية القبلة ({وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (10)
ثم جاءت آية القبلة وما تبعها إلى أن خُتمت الآيات بقوله تعالى ({ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) (11)
هذا القسم كله تمهـيد لهذه الأمة وتهيئـة لأن تتلقى أوامر الله بتعظيم ,واهتمام بالغ وحذر من أن تُشابه بني إسرائـيل.
ثم جاء القسم الثاني وهو في تكليف هذه الأمة بالشرائع
وابتدأ من آية (177 )إلى آخر السورة , ولعلنا نستعرض هذا استعراضا ًسريعا ً, فهذا يُمثّل القاعدة العملية والتفصيلية , ولو تأملنا في هذا القسم أيها الإخوة القسم الثاني وجدناه يرتكز على بناء الأصول وحفظا للضرورات الخمس
- جاء في حفظ الدين آيات الصيام وآيات الحج و({لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } (12) وغيرها من الآيات .
ثم جاء حفظ النفس
وهو الضرورة الثانية المهمة في قول الله تعالى بآيات القصاص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) (13) وتأملوا كيف أفتتح الله تعالى آيات الأحكام بأيات القصاص ,لأن حفظ الأمن هو سبب لإقامة الشريعة .
ثم جاء حفظ العقل بآيات الخمر (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) (14)
ثم جاء حفظ النقل بآيات النكاح والطلاق (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ) (15) إلى آخرها .
ثم جاء حفظ المال بأيات الإنفاق وآيات الربا وآيات المداينات .
انظروا كيف جاء التشريع بهذا الترتيب , والعجيب أيها الإخوة أن سورة البقرة تضمنت الأحكام التي اتفقت الأديان على أصولها هذه مسألة مهمة سورة البقرة اشتملت على الأحكام التي اتفقت الأديان على أصولها , لكنه خالف فيها أهل الكتاب أو شددوا فيها على أنفسهم ,وحرّفوا فيها وعطّلوا , فجاء الوعد بتكذيبها وتصحيحها وتخفيفها لأمة الإسلام , ولذلك تلحظون أن في خلال آيات البقرة جاء إشارة إلى التخفيف والتيسير (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }(16) ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (17) في آيات الصيام أيضا ًإشارة لذلك، كل ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل يشعرنا أن الله أراد لهذه الأمة أراد بها الرحمة وكلفّنا بهذه الشريعة السمحاء على أكمل وجه وأيسر ما كان.
وأيضا هذه الأحكام في السورة ركّزت على الأحكام التي فيها إصلاح المجتمع المسلم ،وذلك لأنها نزلت في بداية تأسيس الدولة الإسلامية النبوية وبناء النظام الأساس وهي الأشكال المتعلقة بالضرورات الخمس كما ذكرت ,ولذلك أطال الله تعالى فيها بأحكام الطلاق وأحكام الأسرة .
وأنكم لتعجبون أيها الإخوة كيف أطال الله تعالى بذكر أحكام الطلاق ولم يكون ذلك لأحكام الصلاة ؟
هذا سؤال مهم جدا ً:
لماذا الله فصّل في أحكام الطلاق وذكرها بأحكام دقيقة ,ولم يفصّل في أحكام الصلاة ؟
ذلك لسرٍّ عظيم أيها الإخوة وهي أن الأحكام المتعلقة بالعبادات بين الله وبين العباد قضية مسامحة , الله غفور رحيم ,والله تعالى أسندها أو أوكل بيانها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,لكن المعاملات والحقوق التي منها حقوق الأسر وحقوق البرية والزوجية والمالية هذه مما تُجبل النفوس على المشاحة فيها والنزاع والخلاف والعدوان والظلم , فتولّاها الله ـ عز وجل ـ برحمته بنفسه حتى لا يقول قائل لم أجدها في كتاب الله تعالى لأنها مظنة الخلاف والنزاع والظلم والعدوان أنزلها الله تعالى وبيّنها بنفسه لتعظم في نفوس الناس , وليعلم الناس عظمها وعظم من خالف ذلك في أمر الله تعالى.
فهذا سر التطويل بآيات الطلاق وآيات المواريث وآيات الأموال في هذه السورة وغيرها.
جمع شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذان المقصدان أصول العلم والعمل في هذه السورة في كلام نفيس قال :
(وقد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه سورة البقرة من أصول العلم وقواعد الدين )أصول العلم العقيدة والإيمان , وقواعد الدين الشريعة.
تأملوا كيف جاءت في خلال التشريعات جاءت آية الكرسي فما مناسبتها ؟ وجاءت آيات القتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ) (18) فما مناسبتها ؟
أما آية الكرسي فلأن هذه الأحكام التشريعية عظيمة لا يستطيع أن يحملها ويقوم بها إلّا من ثقُل قلبه بالإيمان العظيم لله عز وجل،فلذلك جاءت آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل لتُرسّخ في قلوب المؤمنين الإيمان والتعظيم لله عز وجل , فتكون باعثا ًلهم على الانقياد والالتزام بهذه الأحكام ,فما أعظم رحمة الله ـ عز وجل ـ أن أعاننا على تحمل هذه الأعباء في ترسيخ الإيمان في قلوبنا.
ولذلك هذا السر في مشروعية قراءة آية الكرسي في دبر كل صلاة , لماذا ؟ لماذا نقرأها, ولماذا نقرأ في دبر كل صلاة الإخلاص والمعوذتين ؟
هذه مسألة مهمة ينبغي أن نعيها ،لأن هذه الآية تجدد في قلوبنا الإيمان ,والإخلاص والاعتصام بالله ـ عز وجل ـ ففي كل وقت نجدد الإيمان ونجدد العبودية بالفاتحة ,ونجدد الإخلاص بسورة الإخلاص ,ونجدد الاعتماد على الله بالمعوذتين, أرأيتم كيف التوحيد يتجدد في قلب المؤمن في كل صلاة هذا سروهذا معنى يغفل عنه كثير من الناس وهو يقرأ هذه السور في دبر كل صلاة ,يجب أن نستحضره أيها الإخوة ليزيدنا إيماناً وعبودية وإخلاصًا.
هذه السورة ركّزت على جانب التقوى تركيزا ًكبيرا ً, فقد أحصيت المواضع التي وردت في التذكير بالتقوى فبلغت خمسة ًوثلاثين موضعا ًبالتذكير في التقوى , في صيغ مختلفة مدمّجة لآيات الإيمان وآيات الأحكام وغيرها لماذا ؟
كل ذلك لأن التقوى كما قال بعضهم هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر التي تبعث النفس على تعظيم هذه الأوامر والتقيّد بها ,تتقي الله عز وجل في إمتثالها.
كيف خُتِمت السورة ,وبماذا اختتمت ؟
خُتمت أيها الأحبة بشهادة الله عز وجل لهذه الأمة يعني بعد أن كلّفهم بهذه التكاليف فاستجابوا وآمنوا وامتثلوا وسمعوا , الله سبحانه وتعالى شهِد لهم بالإيمان ..وشهِد لهم بأنهم استجابوا في آخر السورة فقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (19) ثم قال الله عز وجل (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) لم يكونوا كما قال بنو إسرائيل (سمعنا وعصينا فهذه شهادة الله لهذه الأمة كرامة لها , فما أعظمها من شهادة.
الخميس 2 نوفمبر 2017 - 12:09 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (10)
الأربعاء 22 أكتوبر 2014 - 12:34 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (8) - (9)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:30 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (6) - (7)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:24 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (5)
الإثنين 20 أكتوبر 2014 - 23:22 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (4)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:44 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (3)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:43 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (2)
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:41 من طرف أم رنيم
» سؤال وجواب في فقه الصلاة (1 )
السبت 18 أكتوبر 2014 - 18:39 من طرف أم رنيم